ذكريات فرنسا 1998: زيدان حيّ فينا!

ذكريات فرنسا 1998: زيدان حيّ فينا!


لم أعد من دعاة تبني مقولة «٢٢ أحمق يركضون خلف كرة»، بل سيحلو لي استبدالها بـ «٢٢ طاقة تطارد الكرة»، كما أنني لست متأكدة إن كانت لامبالاة النساء بكرة القدم «جينيّة» أم أنها مجرد ثقافة «نمطية» عالميّة. الآن، أتذكر كمّ المرات التي راودتني فيها كرة القدم عن نفسي وتمنّعت. في البداية، عُرض عليّ مرة أن التحق بدورة تدريبية هنا في باريس لأصبح معلّقة على مباريات كرة القدم. حينها اعتبرت أن المدير الخمسيني مصاب بـ«وشّة». بعد سنوات طويلة ندمت ندماً عابراً والسلام


 عند حلول كل مونديال، يخطر لي أن أقارن ما يحدث في لبنان مثلاً، من مهرجانات أعلام وأجواء حماسية بما يحدث هنا في فرنسا، فتصادفني المشاعر النسائية المذكورة أعلاه تجاه كرة القدم. لا أدري إن كنت محقة في تصنيف الفرنسيين من أبرد الشعوب الأوروبية في التعاطي مع كرة القدم أو مع منتخبهم. قد تكون مسألة ثقافة غير متجذرة. يحبّونه عندما يحقق إنجازات، أما حين يتردى الوضع فيعرضون عنه؛ وهكذا ترتبك المقارنة.

بدا هذا الحب في أبهى تجلياته في ١٩٩٨، العام الذي استضافت فيه فرنسا كأس العالم. وقتذاك، لم نتمكن من الحصول على بطاقات لمشاهدة المباراة النهائية في «ستاد دو فرانس»، وانتهى الأمر بنا بجلسة حاشدة في منزل أحد الأصدقاء. يومها قررت ألا أتخلى عن حبي لفريقي المفضل، البرازيل، رغم أن فرنسا كانت ـــ ومنذ اللحظة التي اتخذتها لي موطناً ثانياً ـــ كريمة الأخلاق معي، متسامحة و«حبّوبة» إلى درجة جعلتها تهبني الجنسية الفرنسية، بعد أن أثبتّ أني مواطنة صالحة، سلخت جلدها الضرائب السنوية، ولم تتذمر! مهلاً... هل قلت مفضل؟ قد يكون كذلك، علماً أنني أكاد أجزم أني لم أشاهد له مباراة إلا بالصدفة. لكنه فريقي المفضل لأنه فريق رفاقي المفضل.
قررت أن فرنسا دولة ثرية ومرفهة، لذلك، لن «تزعل» مني إن أنا شجعت البرازيل في هذا اليوم التاريخي العظيم! لكن ناس الشارع كان لهم رأي آخر. في مترو الذهاب إلى بيت الصديقة، أضاءت بلوزتي الصفراء الفاقعة المساحة المكتظة من حولي. شباب وشابات، هرج ومرج وصياح وهتافات وكأنها مباراة جانبية في العربة.
سيقان اقتطعت على الأرجح من شخوص الفيترينات البلاستيكية (مانيكان) يلاعبونها في الهواء مزمجرين بعبارات من عيار: هذا مصيركم الليلة! خطر لي أنها المرة الأولى التي أصادف فيها نزعات عنفيّة عند هؤلاء الناس. أحدهم خاطبني: أنت يا صفراء، لا تنسي أن تبدّلي ألوانك في طريق العودة... سنسحقكم. ضحكت...
لم أنتبه إلى aالقلق على ملامح ابنة صديقي الصغيرة في تلك اللحظة، فقامتها كانت تعادل قامة الكرة. حسناً، أبالغ، لكنها كانت صغيرة جداً. خرجنا من المترو. حال الشارع لم يكن أفضل، فجأة دبّت حياة أخرى في المدينة. وصلنا. استقرينا في مقاعدنا، رسموا للصغيرة علماً فرنسياً على خدّها. كيف لا وهي فرنسية «أصليّة»! نظرت إلى نفسها في المرآة ثم خبأت الأقلام في جيبها: أزرق أحمر أبيض. انتهت المباراة، انتهت السهرة، فازت فرنسا وتعيّن علينا العودة سيراً على الأقدام، حتى ما «نروح دعس في المترو». «ليش كان المترو فاتح؟»، تسأل زميلة ثم تخبرني أن المترو عادة في المحطات الباريسية المكتظة بالعرب، كـ«باربيس» و«بيغال»، يقفل أبوابه أمام الركّاب لمدة تمتد إلى أربع ساعات أحياناً، في موعد المباريات الكبيرة. صراحة لست متأكدة، لا أذكر أحوال المترو، لكنني أذكر جيداً أنني لم أغير ملابسي الصفراء، وأنني تلقيت تقريعاً وافراً في الطريق، فاقترحت الصغيرة القلقة أن ترسم علماً فرنسياً يغطي كل وجهي. في اليوم التالي، وفي المكتب المعتم ذي النافذة التعيسة المطلة على الشارع التي نرى منها كل شيء ولا أحد يرانا، كان الزملاء يستعدون للذهاب الى جادة «شانزيليزيه» القريبة والشهيرة، للفرجة على الباص الذي يقلّ ١١ أحمق، كانوا يركضون أمس خلف الكرة، لعلهم يحظون ببركتهم.
للكسل واللامبالاة أحياناً فوائد. انطلق الزملاء سيراً على الأقدام، وبقيت مع زميل يمقت كرة القدم في المكتب المعتم إياه نتأمل هدوء الشارع... وإذ به زيدان ورفاقه. كان الباص أنهى جولته وكرّ عائداً من هذا الشارع الفرعي إلى مكانٍ لا أعرفه، وكان لنا من الفرجة نصيب، على عكس أمة فرنسا التي أمّت الـ«شانزيليزيه»، ولم تحظ ببركات اللاعبين، من فرط الزحمة. لم يكن موجوداً آنذاك لا «آيفون» ولا «فيسبوك» ولا «انستاغرام». وتالياً، لم نفكر بالهرولة هاتفين وراءهم صورة صورة من فضلكم!
وماذا ستكتبين أيضاً في المقال؟ يسألني زاك. بزيادة، أقول، فيستنكر! ألن تكتبي عن تلك المباراة التي جمعت الجزائر وفرنسا بعد ثلاثة أسابيع تماماً من اعتداءات ١١ أيلول وكيف كادت تُلغى بسبب التوتر السياسي الذي قام حينها؟ ألن تكتبي عن ارتباكنا بين تشجيع المنتخب الجزائري وزيدان الذي كان يلعب مع المنتخب الفرنسي؟ ألن تكتبي عن العنصرية التي ساهمت في فقدان المنتخب المتنوع بريقه ومحبته في قلوب كثيرين؟ ألن تكتبي عن شراء قطر لنادي باريس سان جيرمان؟ لا أعتقد أن المساحة ستسمح بكل ذلك، لكنني قد أضيف أنني أصررت مرة على حضور مباراة تنقلها شاشات عملاقة في ساحة «تروكاديرو» وكانت بين إسبانيا وفريق آخر لا أذكره. أذكر أننا علقنا في كماشة الجماهير، ولم يكن من سبيل للفكاك منها سوى التقدم بصعوبة ضاربين بأكواعنا ما تيسر من بشر، حتى غادرنا
ناجين.
قد أكتب أنني ليلة افتتاح كأس العالم، كنت في ساحة «كونكورد»، في كابينة مخصصة للصحافيين أقوم بتغطية حفل الافتتاح مباشرة على الهواء لصالح إحدى القنوات العربية، وقد أقول إنني رافقت صحفياً، كان يغطي المباراة لصالح القناة نفسها، حيث عملت كمترجمة له (تطوعاً) أثناء مقابلته مع ميشيل بلاتيني، رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم، وأسطورة فرنسا السابقة. ثم طلب مني ترجمتها ليبثها في اليوم التالي فـ«سهرت الليل» حتى انتهيت منها وإذ بي اكتشف أنه نشرها حرفياً في صحف أخرى. فحقدت عليه وعلى بلاتيني وعلى كرة القدم. قد أكتب أنني عملت مرة في تقديم النشرات الرياضية وفي ترجمة برنامج خاص بكرة القدم مدة سنتين، وما زلت لا أفهم كيف يتسمّر الناس أمام شاشات التلفزيون لمشاهدة مباراة، ولم أتعلم سوى أن ليونيل ميسي متواضع ورونالدو متعجرف وقميء، وأنني لن أشجع أحداً هذا العام.


 ** نشر في جريدة الأخبار اللبنانية
Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
0 Comments

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.