طرابلس ما قبل قندهار..

خارج سياق الزمن، ومن دون أيّ سبب واضح، أجد نفسي أقلّب صور شوارع مدينتي.. زحمة تقاطع التل والجميزات: موقف حلبا على اليمين، والرصيف الأسود من زيت الباصات ودخان السيارات.. ربما هناك محطة وقود مختبئة على الرصيف، أو ربما ذاكرتي تخونني وتخلط الموقف مع محطة الرصيف بالقرب من مكتب الترجمة أمام البلدية..

بين ساعة التل وكل هذا التلوّث، ما يقل عن المئة متر، تحتلّها مطاعم الأكل السريع: الصوفي، الطبال، أرتين الأرمني الذي أغلق منذ عقد (أو توفي؟).. شاورما، فلافل، سندويش بطاطا.. وعلى بعد دقيقتين، قهوة التلّ العليا.. وكأنها محميّة طبيعية تختبئ في منطقة التل.. شارع صغير يصعد بنا ما يقارب علو الطابق، لنجد أنفسنا وسط أشجار وزقزقة عصافير وهواء عليل.. كيف يوجد هكذا مكان وسط التل وزمامير السيارات؟

صور وصور.. مزيجٌ من أزقة السوق القديم، والحواري، ورطوبة بيوت الحجر العتيقة.. وبائع السوق ينادي علينا لنختار محله دون متجر منافسه.. هذا الأخير يلاحق متسوّقة محنّكة ويعرض عليها تخفيضاً إضافياً في السعر ويقول لها "برسمالها والله" وهي تحارج أيضاً وأيضاً..

هي ليست ذكريات معيّنة.. فالذكرى تحتاج إلى حدثٍ شخصي يرتبط بها.. هي فقط صور..

لا أدري لمَ.. منذ يومَيْن هذا كل ما يدور في رأسي.. صور مدينتي.. صور طرابلس بأسلاك الكهرباء المعلّقة، بصور المرشحّين لانتخاباتٍ مرّت قبل سنوات.. بضحكاتٍ تهرب رغم الفقر والتعتير.. صور طرابلس كما أعرفها: معتّرة، لكن مستورة، تحب الحياة، تحب حياتها.. وليس كتلك التي تخبروني عنها: طرابلس قندهار.. لا أعرف هذه "النيو تريبولي".. هذه التي تبدو وكأنها تعيد سيناريو "الشرقية والغربية" وخطوط التماس والمتاريس.. وقادة المحاور! (قليلة بقى؟!)

لا أريد الكلام عن طرابلس اليوم! ربما إنكاراً منّي لواقعٍ يريد أن يفرض نفسه بالقوّة، عليّ وعلى كلّ من يتمسّك بصور طرابلس ما قبل قندهار.. وربماً تعبيراً عن رفضي لهذا الواقع..

أريد فقط أن أقلّب الصور.. سلالم الرتّاية مقابل كنيسة الكواتلة.. حديقة مدرستي، والفراولة التي كنّا نسرقها قبل أن يلمحنا الناطور (أبو علي؟).. رائحة الصابون! أو بالأحرى رائحة الأمونيوم بكل كيماويتها تتصاعد من معمل الصابون، وزحلقة الرصيف أمامه.. مطبعة آل نشابة ورائحة الورق.. ورشة الحدادة.. واللبن المعزة! أحذية الاتقان مع أنني لم أشترِ يوماً منه، لكن يافطة المتجر والخط العريض لا تزال عالقة في ذاكرتي..

التفاح المغطّس بالسكّر يجول به ختيارٌ في أزقة المينا.. رائحة الخبز النخالة..

رائحة طرابلس ما قبل قندهار..
Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
1 Comments
big loss

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.